*عبدالإله القدسي
ما أكثر الذين يرددون حتى الآن، أن أجود شعر الشهيد أبي الأحرار محمد محمود الزبيري توقف عند القصائد الأحمدية، ولم يبدع بعدها شيئا جديرا بالوقوف عليه. وقد وجدت هذه الآراء الفجة آراء تبعية لم تستكنه سر الغرض، فمن أين جاءت هذه الآراء الدعائية؟؟
لعل مجيئها من مصدرين: الأول من الساسة المناوئين للأحرار، والمصدر الثاني من العاجزين عن فهم اختلاف المؤثرات في حياة الشاعر واختلاف تعبيره تبعا لاختلاف تلك المؤثرات، وفي هذه الحالة يبقى الحكم العادل هو الشعر نفسه وعنده تخرس الأحكام الجزافية. صحيح أن القصائد التي قالها أبو الأحرار في رحاب أحمد حميد الدين أبلغ وأجود ما سمع وأبدع الجيل الماضي في باب المديح، لأن هذا الشعر أبدع توظيف اللغة، وأحكم التهاويل البيانية فتفوق على بديعيات السالمي وتوريات السكري، ولكن التقليديين يسوؤهم أن يتجاوز الشاعر جديدا إلى أجد، لأنهم تكيفوا مع ما قاله الشاعر من قصيد: مثل قصائد: العيد من قسمات وجهك يشرق و"هذه الشمس أو شعاع المكارم"، أو "إليك وإلا يا ترى أين أذهب؟".
كل هذه التهاويل البلاغية بما فيها من صدق شاعرية وقف عندها أصحاب الآراء، ولكن الشاعر تجاوزها إلى الإيحاء الكثيف، والغموض الشفاف، والهمس الدال على النجوى بالسر، من مثل قصائده الباكستانية:
أحس بريح كريح الجنان
تهب بأعماق روحي هبوبا
فقد كان الزبيري في هذه القصيدة وأمثالها يناقش مع نفسه أغمض الأسرار وأخفى دقائق الغربة، ففي تلك الفترة تجاوز التهويلات الخطابية وانتقل إلى همس الشاعرية، لأن الهمس أدل على خطورة الأسرار وأدل على امتلاك الشاعر أمر الكلمة.
فقد كانت فترة الباكستان أخصب شعر الزبيري من قصائده الأحمدية، لأن صدق الجمال في الهمس أغنى عن تهاويل الزخرف الذي يمثل الطفولة الشاعرية، وفي مصر زاد الزبيري تحولا بفعل نضج المشاعر فيه وتغير وجوه المؤثرات من حوله، فأبدع في قصيدتين مطلع كل منهما:
"بنفسي أفتدي الوطن الحبيبا، ثورة الشعب في بلاد الرشيد" وقد اعتبر بعض أدبائنا قصيدة ثورة الشعب بمناسبة قيام ثورة العراق مجرد مقال سياسي منظوم، وهذا الرأي يدل على الجهل بطبيعة الشعر السياسي الذي يواجه بعداوة مكشوفة سلطة دامية الأظافر والأنياب، فهذا الشعر في نظرنا لا يحتاج إلى شيء كما يحتاج إلى الوضوح والدقة والتحديد والإثارة بالفكرة والفن السافر، بل ويحتاج أحيانا إلى البذاءة لأن اللغة التي تصف المقابر والمقاصل تغير ألسنتها حين تصف الشواطئ والبساتين لأنها تنتزع أشكالها التعبيرية من مادة الموضوع. فإذا عبرت البذاءة عن موطن الخسة فلا بذاءة وإنما فن عبر عن غرضه. ألم ترد في القرآن من مثل "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم". ومن مثل: "كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث" لكي يتميز الخبيث من الطيب والجمال من الدمامة عن طريق الإبداع التصويري. إذن فالحكم العادل هو الفن الذي صدرت عليه الأحكام، وليست الأحكام إلا دليلا على مصدريها، فلا يمكن لشاعر كبير كالزبيري، أن ينشئ أشعاره على نمط واحد ولا تختلف أفكاره وقوالبه باختلاف نضج العمر وتحول المؤثرات والعوامل. وعلى غرار هذا بدر شاكر السياب الذي صدرت حوله الكثير من الفصول والكتب وقررت في ثقة عرجاء أن إجادة السياب انتهت في ديوانه (أنشودة المطر) الصادرة عام 1958م وكل ما أصدر بعده من مجموعات ليس إلا تدليلا على الوجود، لا على التفوق!! صحيح أن السياب بلغ غاية نضجه في "أنشودة المطر" ولكن.. هل بقية الدواوين تدل على إفلاس الشاعرية؟؟ إطلاقا.. لأن الإجادة لا تملك إلا الإجادة وإن اختلفت طرائقها الإبداعية.
إن الدليل على تنامي شاعرية السياب هو قدرته على التحول من شكل إلى شكل عن رؤية فلسفية، وعن اقتدار على تطويع الأشكال، تبعا لظروف الحياة الثقافية.
أصدر السياب ثلاثة دواوين بعد مجموعة أساطير وأزهار هي: الأسلحة والأطفال، المومس العمياء، أنشودة المطر. ثم جمع الثلاثة الدواوين في مجموعة واحدة بعنوان "المجموعة الأخيرة" إذ أن السياب في تلك المرحلة يجمع بين العمودي، والعمودي المتطور، والمرسل تبعا للمواقف والموضوعات والجموح الفني الأهم من التشكيل والشكل. وبهذا كانت "أنشودة المطر" أول تحول خلاق في مسيرة الشعر العربي المعاصر، ثم انتقل السياب إلى ديوان "المعبد الغريق" فتوالت الآراء عن ضعف هذا الديوان بالنسبة إلى أسلافه ثم بالنسبة إلى زملائه وتلت هذه الآراء العوجاء آراء إمعية، فإذا كان السياب قد نجح في أنشودة المطر، فإن إعادة نفس التجربة في ديوان آخر دليل العقم. ورغم هذه الحقيقة، ما تزال هنا -حتى اللحظة- آراء ترى أن السياب شاعر في "أنشودة المطر" ومحاول في القصائد التي تلتها. من كل هذا يجمل بكل من يحترم مسئولية الكلمة وقداسة الرأي أن يستخلص آراءه وأحكامه من نفس المادة، لا من الآراء فيها بعد أن تكتمل له معايير الحكم الصحيح.