التنوع الثقافي داخل أي قُطر ليس نقيضا للانتماء الأشمل، بل أراه مصدر إثراء للحياة فيه ومدخلا إنسانيا للتعايش والقبول بالآخر المختلف بتقاليده وعاداته، وليس في الأمر ما يقلل من وطنية من يتمسكون بما ورثوه جيلا بعد جيل، لكن بشرط ألا يتحول إلى تعصب مناطقي ومنبع تصور واهم بعلو مقام أو أفضلية تاريخية تمنحهم روح استعلاء وتقزيم للآخرين، إذ إن الفارق شاسع بين التعصب والتنوع ويثير المخاوف ويدفع نحو مطالبات بالتميز ومظنة القدرة على فرض ما يريدونه بعيدا عن إدراك لمصالح الآخرين الذين يعيشون معهم في رقعة جغرافية مجاورة أو بعيدة. الأسبوع الماضي خرج عدد من مكونات إقليم حضرموت ببيان أثار زوبعة يمنية فتحت باب خلاف جديد، إذ جاء معبرا عن نزعة محلية متطرفة فأحدث ردود فعل متباينة ارتبط الكثير منها بالمشاعر السلبية التي تصل حد الكراهية تجاه من يسيطرون على السلطة في العاصمة صنعاء، والبعض الآخر تناول المسألة من زاوية أكثر شمولية لمترتبات الإعلان وتأثيراته المباشرة على المشهد الوطني برمته. الذين اعتبروا الأمر إنفاذا لما صدر عن لقاءات الموفينبيك الشهيرة يتجاهلون أن ما صدر عنها حدد أن إقليم حضرموت كان يضم محافظتي شبوة والمهرة فجاء بيان حضرموت الأخير معلنا استبعادهما، ورغم أن التقسيم المعلن حينها كان قسريا وبعيدا عن روح التوافق التي يزعمها من حدد عدد وحدود الأقاليم دون دراسات اجتماعية واقتصادية وسكانية، وهكذا فإن هؤلاء يتناقضون مع ما توصلوا اليه من تكييف للأمر. إن ما يدور في اليمن حاليا هو تعبير فج عن واقع أوجدته السياسات الهوجاء وغير الناضجة وطنيا لجماعة أنصار الله - الحوثيين، فقد أحدثت تصرفاتهم سيلا لا يقف عند حد من النزاعات المسلحة والاجتماعية على امتداد اليمن، ومارسوا إجراءات تعسفية قاسية في النطاق الجغرافي الذي يسيطرون عليه بالقوة ومنحوا أنفسهم حقوقا دون التزامات، وكرسوا في إداراتهم للمناطق التي يسيطرون عليها نزعة متعصبة لإقصاء كل مختلف معهم وسجنهم، ومارسوا غرورا تجاه خصومهم ومنحوا المواقع الإدارية العليا لمنتسبي جماعتهم وخاصة تلك المرتبطة بالموارد المالية دون أن تكون عندهم حساسية تجاه ذلك وما تنتجه من ردود فعل تتناسب طرديا مع ما يفعلونه، وزادوا فوق كل ذلك ممارسات أدت إلى ارتفاع معدلات الفقر والمجاعة بينما تضخمت مصالح أنصارهم وبلغ الفساد المالي عندهم حدا يفوق في معدلاته كل ما كان يمارس في العهود السابقة. المحنة هي أن ظواهر التشرذم الحاصل اليوم هي نتاج طبيعي وحتمي لما يدور في البلاد منذ ٢١ سبتمبر ٢٠١٤، ومع ذلك فإنى أجزم أن أسلوب كافة الأطراف في التعاطي الحالي معها لا يخفف منها، بل على العكس يفاقم من آثارها بما يجعل أمر تجاوزها أشد صعوبة، ولا يجوز أخلاقيا أن تكون المعالجات للخروج بالبلاد من كوارثها مبنية على ممارسة نفس الصنيع تحت شعار أن المرء لا يجب أن يكون عادلا إذا كان خصمه غير عادل عملا بالمثل الغربي الذي يقول بعدم الاعتقاد إن عدم التفكير بأكل الأسد لن يمنعه من التهامك، وهذا يعبر عن حالة من الجموح نحو العنف تكون نتيجته الطبيعية عنفا مقابلا، وهكذا تظل دورة الدماء مفتوحة على مصراعيها. إن تنوع أي بلد اجتماعيا وثقافيا هو انعكاس لطبيعة الأرض التي يقطنها السكان، فطباع أهل الأراضي الخصبة أو السواحل تختلف عن تلك الكتلة البشرية التي تعيش في الصحراء أو الجبل، وليس في هذا تقليل من شأنها وبالإمكان أن يظل التعايش بينهم قائما في حال اتفقوا على قبول التنوع دون تعصب وتوصلوا إلى عقد اجتماعي توافقي يمنح الجميع حقوقهم في اتخاذ ما يناسب طبيعتهم النفسية والذهنية وتراثهم الثقافي والأمثلة في هذا المقام كثيرة في دول غربية تعايشت مع الأمر تحت مظلة وطن واحد بلغات ومذاهب مختلفة. من يتصور أنه قادر على فرض منهجه ورغباته دون تلمس حقوق الآخرين لابد أن يصطدم بواقع سيجلب المزيد من الويلات على الوطن بـأكمله حتى أن تصور أنه قادر على فعل ذلك بعيدا عن محيطه الوطني أولا، وتجربة انصار الله - الحوثيين ماثلة أمامنا وهم الذين أقصوا حتى حلفاءهم في الداخل وأثاروا خصومة الإقليم وقلقه. كاتب يمني وسفير سابق