كتب/د.عبد الوالي هزاع مقبل
أمتلك النظام الذي حكم اليمن حتى الأن أجهزة أمنية متعددة بمسميات مختلفة ، إلى الحد الذي أختلط فيه الأمر على المواطن اليمني العادي وصار غير قادر على التمييز بين هذه الأجهزة من حيث مسمياتها ومفهومها ومهامها التي تداخلت كثيراً فيما بينها وصار الكثير من المواطنين لا يميزون بينها لأنها صارت جميعها تمارس نفس الوظائف والمهام تقريباً، حسب الظروف المكانية والزمانية، وشخصية القائد لهذا الجهاز أو ذاك ودرجة قرابته الأسرية من الحاكم، و صارت جميعها تمارس عملية الضبط والاحتجاز (الحبس) للمواطنين وفرض الغرامات وطلب ضمانات تجارية وشخصية و حجز رهائن على الطريقة الملكية (الإمامية)، في مختلف القضايا (جنائية أم سياسية....) حدثت فعلاً أو تم تلفيقها لمن يريدون حجزه وتهديده بسبب نشاطه السياسي غير المرغوب فيه من قبل النظام والحاكم أو أحد أفراد أسرته ، أو المقربين منه .
و نتناول هنا بشكل عام أجهزة المخابرات التي أخذت مسمياتها بعد عام 1990م كالأمن السياسي ثم تم إنشاء جهاز الأمن القومي مع استمرار بقاء السابق . ويعرف الكثير من اليمنيين أن هذه الأجهزة تفرغت خلال الفترة السابقة لملاحقة المعارضين السياسيين والمخالفين في الرأي للحاكم، و أثبتت هذه الأجهزة قدرات كبيرة بمطاردة المعارضين وتفننت في تعذيبهم وترويعهم. وكان من الطبيعي أن ترتقي وظائف هذه الأجهزة بعد تحقيق الوحدة اليمنية وقيام الجمهورية اليمنية ، التي قامت على أسس الديمقراطية والعدالة والحرية للجميع والانفتاح السياسي والاعتراف بالآخر وحق الأحزاب السياسية في ممارسة النشاط السياسي المدني ، ولكن مسار الوحدة في السياق التاريخي والسياسي أنحرف تدريجياً حتى وصلنا إلى الوضع الذي نعيشه اليوم بعد واحد وعشرين عاماً من عمر الوحدة، وكان من المفترض أن تُقلص أنشطة هذه الأجهزة على المستوى الداخلي بعد قيام الجمهورية اليمنية ، لكن الأمر سار عكس ذلك تماما فقد توسعت أجهزة الأمن السياسي والقومي وأوجدت لها شبكة من الفروع والمكاتب في كافة المؤسسات والمرافق الحكومية وخصص لمختلف المكونات المدنية (مثل المنظمات الشعبية والحقوقية وحتى النقابية منها ) عناصر تتابع نشاطها . وأكدت كثير من الشواهد تدخُّل هذه الأجهزة في قيادة نشاط هذه المؤسسات وخاصة في مجال اختيار الكادر والترقيات الوظيفية والعلمية في كثير من الأوقات ، و تسد الطرق أمام الكادر المتخصص في الاستحقاق للوظائف الأعلى في الجهاز الإداري للدولة ومؤسساتها إذا كان ولاؤه للحاكم غير مضمون . ومع أنه لا يحق التمييز بين أبناء الوطن الواحد في مجال الوظيفة العامة واختيار الكادر إلا وفق الشروط والقواعد المحددة في نظم شغل الوظائف ، ولكن ما حصل كان مخالفاً لكل القوانين واللوائح النافذة ، و لم يكن حتى بحسب الانتماء السياسي (عضوية المؤتمر الشعبي العام) - إذا أعتبر حزب المؤتمر حاكماً - وإن طرح البعض ذلك ظاهريا ، ولكن كان كل شيء يتم بتدخل سافر من قبل هذه الأجهزة الأمنية ، حيث يتم الاختيار أولاً من العناصر ذات العلاقة المباشرة بهذه الأجهزة أو على الأقل مضمونة الولاء (متعاونين) ، حتى ولو اتصفت بالفساد ونهب المال العام ، إضافة إلى تبني ذوي الارتباط العائلي بالنافذين أو لدوافع جهوية (قبلية وقروية) بغض النظر عن مواصفات الشخص الوظيفية (كالخبرة والكفاءة والمؤهل...) ، ويكون الولاء للحاكم هو المعيار الأوحد. وكانت نتيجة ذلك تدهور كبير في أداء تلك المؤسسات وفشلها في أدائها لوظائفها سواء كانت تنموية أو خدمية .
إضافة إلى كل ما سبق فقد عملت هذه الأجهزة على التدخّل في عمل أجهزة الشرطة والنيابة العامة وكذلك القضاء وتكييف القضايا بما يخدم الإضرار بالمخالفين بالموقف السياسي والرأي ، ولمصلحة النظام والحاكم . ومن خلال عناصرها تقوم هذه الأجهزة بتنفيذ سياسة تغيير البيانات والمعطيات الخاصة بالمجتمع اليمني مثل بيانات نتائج التنمية وأعداد الفقراء في اليمن وأعداد الوفيات في فئات السكان ، ونتائج المسوحات والتعدادات الاجتماعية والاقتصادية ، وذلك كله بهدف إظهار تغيّر إيجابي ونمو وتطوّر وهمي في الحياة الاقتصادية والاجتماعية ، من أجل الحصول على المساعدات من قبل المؤسسات والدول المانحة ، وسيكتشف مجتمعنا ذلك خلال الفترة القادمة عندما يجري التأكُّد من الحقائق ، ووضع قواعد بيانات ومعلومات فعلية لتخطيط التنمية .
و من ناحية أخرى لم نسمع أن هذه الأجهزة قد كشفت شبكة مخابرات أجنبية داخل اليمن ، مع إننا نعرف ونسمع أن كثيراً من أجهزة المخابرات المعادية لليمن وللعرب ، وتلك التي تدعي صداقتنا ، تنتشر في بلداننا ، والشواهد على ذلك هو ما يجري من كشف متواصل لبعضها (كما حصل في لبنان ومصر على سبيل المثال). والأمر المؤسف أنه بدلاً من أن تكون مقرات أجهزة الأمن مصدر فخرٍ للمواطنين – عندما يقع نظرهم عليها – باعتبارها مواقع حراسة الوطن وعيونه الساهرة ، تكون مصدر خوفٍ له نتيجة لقناعته من انه لو تم تلفيق قضية له من قبلها فلا توجد أي قدرة تفكه منها سوى قدرة أرحم الراحمين .
ويتكرّر الحديث بأن الفرق المسلحة التي توصف بانها عناصر القاعدة قد تسربت إلى اليمن من خارجها، ولكن لم يقل لنا أحد كيف حصل ذلك وأين كانت هذه الأجهزة ؟ ويكون التساؤل المشروع هنا: ألم تتسرب شبكات التجسس الأجنبية والإسرائيلية منها إلى بلادنا في ظل هذا الضعف الكبير ، كما تتسرّب هذه الفرق؟ ، وبوجود هذه الأجهزة تزدهر في بلادنا عدد من الأنشطة تساهم في تدمير اقتصاده وبنية مجتمعه وأخلاقياته وتضرب استقراره وأمنه وكذلك تدمّر مستقبل شبابه ، نتيجة لازدهار تجارة السلاح وتجارة المخدرات وغسيل الأموال القذرة والإتجار بالبشر ومن ضمنها تهريب ابناء وبنات ونساء عبر الحدود ليتم بيعهم في أسواق نخاسة خارجية ونضيف إلى ذلك كله صناعة الدعارة .
عند تأسيس جهاز الأمن القومي قال البعض إنها خطوة لتجاوز الاختراق الذي مني به جهاز الأمن السياسي من قبل الأجهزة المعادية لليمن ومن قبل تنظيم القاعدة . ولكن ما سماه البعض اختراقا استمر وتواكبت أحداث هروب العناصر المتهمة بارتكاب جرائم مسلحة من سجون الأمن السياسي في عدن وصنعاء وليس آخرها في المكلا عاصمة محافظة حضرموت وجميعها إن لم يكن أغلبها قد صدرت أحكام قضائية بالتهم المنسوبة إليها . ويستمر السؤال عن دور وكفاءة هذه الأجهزة بالرغم من الأموال الطائلة التي صرفت باسمها - و دائما بتعدد المشهد- ، مما أدى إلى أعاقة تحقيق أهداف التنمية في القطاعات المدنية المختلفة .
إن مدى تغلغل الجهاز الجديد في مؤسسات الدولة والمجتمع لم يكن خافياً على المواطنين اليمنيين وقد أحسوا به خلال الفترة الماضية ، وجملة التصرفات جعلتنا نظن أن أغلب أعضاء المؤتمر الشعبي العام هم أعضاء في جهاز الأمن القومي ، وذلك من جهارة مجاراتهم لكل ما يأتي من أعلى ، ومن جهاز الأمن القومي بالذات .
حتى مؤسسات التعليم العالي (الجامعات) لم تسلم من ذلك بل هي أكثر المؤسسات التي جرى نخرها وتطويعها بشكل بالِغٍ، فرأينا كيف جرى تدجين النقابات في أغلبها ، وجعلها تلعب دوراً مناهضاً للوظائف الحقوقية الطبيعية التي ينبغي أن تقوم بها، وساومت على مصالح أعضائها و شاركت بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر في مسيرة تدهور المؤسسة الجامعية ، كل ذلك حدث بسبب الأساليب التي تمت بها اختيار قيادات النقابات الذي لم يكن ليمر دون إشراف أجهزة الأمن ومن يثقون بولائهم من قيادات الجامعات و من أعضاء هيئات التدريس . وكان ذلك ناتجاً عن سياسة هدفت إلى مسخ المؤسسة الجامعية وهزّ بنيتها الأكاديمية وجعلها أضعف من أن تقوم بدورها كمؤسسة لها دور الريادة في العلوم والفكر والسياسة والتغيير المجتمعي .
والنظام الحاكم أقدم على ضخ عدد كبير من ضباط الأمن إلى الجامعات اليمنية الحكومية بدون احترام للمؤسسة الجامعية ووظيفتها ودورها في المجتمع ومستقبله ، وكان الهدف هو خلق جيوب لأجهزة الأمن في كل مرافق ومكونات الجامعة وبشكلٍ خاص ضمن طاقم هيئات التدريس وبتجاوز كبير لشروط التعيين واجراءاته الواردة في القانون واللوائح النافذة ، وبما يسيء إلى الوضع الأكاديمي ويؤثر على المؤسسة الجامعية وتطورها ، وكان ذلك تعبيراً عن فداحة الفساد الإداري وسبيلاً لتوسيعه ، إلى جانب غيره من أشكال الفساد التي يصرخ الجميع من استفحالها في الجامعات .
وفي خضم ذلك رأينا كيف تم توظيف بعض اساتذة الجامعات في تنظيم وإخراج بعض الندوات و ورش العمل التي اتسمت بكثيرٍ من التزييف للأحداث و التاريخ السياسي في اليمن بصورة سافرة ومستهجنة فقط لإثبات الولاء للحاكم ونكاية بالأخر، وقد جرى ذلك داخل الحرم الجامعي وباسم المؤسسة الجامعية وبتمويل منها.
وبالعلاقة بهذه الأجهزة والمقرّبين منها ، نذكر هنا على سبيل المثال أنه قبل ثلاثة أعوام تقريباً تم تنظيم ندوة - سميت علمية - في جامعة عدن عن الرئيس علي عبد الله صالح ، تسابق على المشاركة بها عدد من الأساتذة - الجاهزين لقول أي شيء - وقدموا أوراقا تحوي معلومات غير واقعية وذلك تزلفاً وكسبا للصيت ، وقد سمعت بعد الندوة تعليقاً من قبل أحد قادة المؤتمر الشعبي العام وكان ممّن حضروا الندوة (وهو من خارج الجامعة وعلى معرفة بالرئيس) يقول في مقيل قات أنه استغرب لما أورده أساتذة جامعة عدن- الذين وصفهم بمهرّجين وليس بأكاديميين، وأن الرئيس لو كان سمع ما قيل عنه وعن والده لرفضه ، حيث أوردت معلومات غير واقعية وغير صحيحة أي مزيفة. كما أننا رأينا كيف انبرى عدد من أولئك الأساتذة وهم يبتدعون التوصيفات و التنظير عن ما أسموه ب "الحوثية" وخطرها وأهمية مواجهتها ومحاربتها وذلك عبر ندوات وورش عمل عقدت بالجامعة وبتمويلها أيضاً ، كل ذلك لتبرير الحروب التي كانت تشن على صعدة وسكانها .
كما رأينا كيف توظّف هذه الأجهزة مثل هؤلاء الأساتذة سواء في الأوساط الشعبية أو عبر الفعاليات التي يسمونها علمية أيضا لتبرير موجات ارتفاع أسعار المواد الغذائية والمحروقات بأساليب وأفكار غير علمية فقط لخدمة النظام بدون التفكير بمواطني بلدهم ولا خوف من رب العالمين. أضف إلى ذلك الانتشار الذي حصل لهؤلاء "الأساتذة" في الجامعات وغيرها من المؤسسات للشرح المنمّق البعيد عن المسؤولية للتعديلات الدستورية التي سميت حينها بأنها تصفّر العدّاد أو تقلعه نهائياً بالنسبة لفترات حكم رئيس الجمهورية .
ثم رأينا في يناير 2011م كيف استخدمت جامعة عدن في تنظيم معرض حول أحداث"13 يناير " في حادث كان هدفه إثارة الجراح بدلا من أن تلعب الجامعة وظيفتها في السمو بالمجتمع عن مشاكله واختلافاته ، ورأب الصدع وتبنى مشاريع التغيير و التطوير ، إن تلك الوقائع تحط من الجامعة وتضعف من احترامها في المجتمع لأنها تضعفها و تبعدها بعيداً عن وظائفها الأكاديمية والتعليمية وخدمة المجتمع وفي الجوهر عن منطقها وتفكيرها العلميين .
واليوم خلال أحداث وفعاليات الثورة اليمنية الراهنة يظهر بعض من أولئك الأساتذة عبر وسائل الإعلام ويجتهدون في إنكار حوادث قتل اليمنيين أثناء مشاركتهم في المظاهرات والاعتصامات السلمية ، مكررين – بابتذال مشهود - طروحات وسيناريوهات الأحداث التي تضعها الجهات الأمنية والتي يقع عليها الاتهام بارتكابها ، وليكون الأمر واضحاً ليس المقصود هنا الموقف السياسي لأي من هؤلاء عن الثورة وضرورتها من عدمه وعن المطالب المرفوعة من قبل الشباب والشعب ، بهدف التغيير ، فهذا يمكن حسابه في إطار الرأي والموقف السياسي والفكري ، وذلك حق مهما كان أمره ، لكن الأمر أبعد من ذلك ، عندما ينبري أحدهم - على سبيل المثال - وهو من أساتذة القانون ليردد على الشاشة الصغيرة معلومات مزورة عن المجزرة التي ارتكبت في ساحة الحرية في تعز وينكر الحادث وما جرى خلاله من قتل وإحراق لبعض الشباب المعتصمين ، واختطاف الجرحى وغيرها من الأعمال التي تقشعرّ لها الأبدان ، وأقل ما يمكن قوله في ذلك أنه استخفاف بعقول اليمنيين وعدم احترام لهذا الشعب والمجتمع الذي على الأقل دفع تكاليف تأهيلهم .
ما هو المطلوب ؟
* الحق أن اليمن في ظل نظامه الجديد بحاجة إلى إعادة بناء هذه الأجهزة وتوحيدها في جهاز مخابرات عامة واحد، تكون وظيفته تأمين الوطن وسيادته، من خلال مكافحة شبكات التجسس الأجنبي وتجريم العمالة لها من قبل واعتبار ذلك خيانة للوطن ، وكذلك ملاحقة العصابات المسلحة التي تقلق أمن اليمنيين وتضر بمصالحهم .
* إن الكادر المشار إليه المشتغل مع الأجهزة الأمنية والذي تم نشره في المؤسسات الحكومية والمؤسسة الجامعية منها ، أو تم كسب بعضهم من العاملين فيها ، يكوّنون جيشٌ بشريٌ وهم عبارة عن ثروة يجب أن يستفيد منها جهاز المخابرات العامة الذي سيتكوّن في النظام الجديد ، بعد إعادة رجال الأمن الذين أرسلوا إلى المؤسسات ونقل الذين تم توظيفهم للتعاون و العمل مع الأمن ليساعدوا بتخصصاتهم المختلفة في حماية الوطن وسيادته بعيداً عن العمل ضد شركائهم في الوطن ولترك المؤسسات التنموية والخدمية تقوم بوظائفها .
* كما أنه يجب أن يمنع تواجد شبكات أو عناصر من المخابرات الأجنبية على الأرض اليمنية حتى لو تم الادعاء بأنها صديقة لأن العلاقات تتم بين الأجهزة ومن خلالها فقط.
* وفي النظام الجديد يجب أن تلغى كل مكاتب وفروع أجهزة الأمن السياسي والقومي في المؤسسات الحكومية وغير الحكومية أينما وجدت ، فهي لا وظيفة لها هناك ،لأن هذه المؤسسات تعمل وفقا للقوانين التي أنشأتها و اللوائح المنظمة لعملها .
* في النظام الجديد يجب أن يحرّم التجسُّس على المواطنين ويشمل ذلك التنصت على المكالمات الهاتفية سواء كانت على الهواتف الأرضية أو المحمولة وكذلك البريد الإلكتروني وكافة وسائل الاتصال والتراسل المتعارف عليها .
* وفي النواحي المالية نحن بحاجة إلى جهاز لمتابعة الكسب غير المشروع يحيل نتائج تحرياته وتحقيقاته إلى النيابة العامة مباشرة ، ليس في مؤسسات الدولة فقط ، ولكن في المجتمع كله، يعمل على التدقيق والتحقيق في قضايا الفساد المالي والإداري و الغش والتحايل والتزوير بغرض الكسب غير المشروع، ويستلم تقاريره من مختلف الجهات الرسمية ومنها الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة.
Mukbil2007@hotmail.com