المبعوث الاممي يدعو لعدم ربط الحل السياسي في اليمن بقضايا اخرى        تعثر خطة الرد الاسرائيلي على ايران        اعتراف امريكي بريطاني بنجاح الهجمات اليمنية البحرية والجوية        صنعاء ,, انفجار اسطوانة غاز يتسبب باندلاع حريق هائل في سوق شعبي     
    مقابلات /
سلوكيات المستعمر البريطاني دفعت بالثورة وحسمت الصراع



 
لقاء الوسط

 

رااشد محمد ثابت للوسط

*عشية قيام الثورة في الجنوب كانت أراضي الجنوب موزعة بين قبائل وسلطنات وإمارات ويصل عددها إلى أكثر من 21 سلطنة وإمارة مستقلة بسلطاتها وجيوشها وأمنها.. كيف حصل التغيير عشية الاستقلال عام 1967م وتمكنت الثورة من توحيد كل هذه الإمارات والسلطنات؟ وما هي الظروف وشروط الواقع التي كانت قائمة عند قيام الثورة.. وكيف تبدلت هذه الظروف عشية الاستقلال وما وسائل الثورة حتى وصولها إلى نتيجة انتزاع الاستقلال وقيام الجمهورية على كل أراضي الجنوب؟
-المتعارف عليه عند العلماء أنهم وجدوا أن التصورات الفكرية عند الإنسان تتكون عبر مراحل حياته المختلفة، وتتحدد اتجاهاته الفكرية من خلال نسق الحياة التي يعيشها في نطاق أسرته، وطائفته، وعادات وتقاليد البيئة القائم في محيطها، ويمكن للإنسان أن يخرج من جور القبضة الفطرية التي يعيشها أو ثقافة البيئة التي تربى وترعرع داخلها من خلال تفاعله مع الإرادة الجمعية لتتشكل شخصيته كنتاج لإرادة المجتمع الواسع الذي يجب أن يعيش فيه كفاعل مؤثر في النمو الإنساني وارتقائه المتجدد باستمرار.
والتكوين الغريزي للإنسان الذي يقوم على العصبية الضيقة في الإطار الجغرافي لمنطقة القبيلة هو الذي يحدد نسق السلوك الحياتي لهذا الإنسان ويتأسس عليه حافز التصورات الفكرية التي تنصاع لروابط الدم وأعراف القهر التعصبي للمنطقة التي تنتمي إليها القبيلة والمشروطة بعصبية الانتماء لهذه القبيلة وسلطتها المقيدة للحرية بحدودها الجغرافية الضيقة.
غير أن التطور الحضاري، الذي بدأ يزحف على حياة الناس من خلال الحياة المدنية التي بدأت تدخل إلى مدينة عدن في ظل الحكم الاستعماري لهذه المدينة وما جاورها من المناطق التي كانت تسمى بالمحميات الغربية والشرقية، قد فرض شروطا وحاجات جديدة على نمط الحياة التي يعيشها الإنسان في هذه المنطقة، الأمر الذي أدى إلى بروز نخبة من المثقفين الذين بدأوا يشقون طريق البحث عن ثقافة اجتماعية جديدة تقود إلى إيجاد روابط وتصورات جديدة تجسد الحاجة إلى الانتماء الوطني والارتباط بالجذور التاريخية واستدعاء روابط الهوية الحقيقية التي توفر شروط التكافؤ في الصراع من أجل الحياة مع قوى الاحتلال والاستبداد التي مزقت المجتمع إلى دويلات وسلطنات صغيرة وهي القوى الحاكمة التي مارست الاستلاب للهوية الجمعية والانتماء الوطني.. هذه القوى المتمثلة بالاستعمار البريطاني وعملائه من السلاطين الرجعيين والقوى التقليدية المتخلفة من القوى الإمامية الكهنوتية الغاصبة لسدة الحكم في شمال الوطن.
وقد قام إدراك هؤلاء المثقفين وجهدهم المضني على أن بناء المجتمع الجديد لن يتحقق إلا في ظل نمط من الشخصية الجديدة الواعية والتي يجب أن تغادر التصورات الفكرية الضيقة القائمة على التعصب للقبيلة والمنطقة السلطانية والبعيدة عن الأعراف والتقاليد الإقطاعية البالية وصنوف الجهالة المدمرة.
كان الاستعمار البريطاني في مدينة عدن قد عمل على تمزيق وشائج الانتماء الوطني بين أبناء البلد الواحد واتبع سياسة (فرق تسد) في نطاق المحافظة على روابط العصبية في المناطق الريفية دون أي تحريك إيجابي لظروف الواقع الحياتي للناس، ومارس في مدينة عدن سياسة التفضيل للجاليات الأجنبية في الانتماء للمواطنة في المدينة ذاتها دون أبنائها الحقيقيين من أصول عربية يمنية سواء من أبناء المحميات أو من أبناء شمال الوطن اليمني، وكانت قضية الانتماء الوطني قد بدأت تشكل جوهر الصراع بين المثقفين الوطنيين وقوى الاستعمار البريطاني وعملائه في المنطقة.
وعلى إثر ذلك كان لا بد من اتخاذ خطوات جريئة وناضجة باتجاه التصعيد وحسم الصراع مع القوى الاستعمارية والرجعية لصالح الإرادة الشعبية المتحفزة للحرية والاستقلال، والبداية كانت في اليقظة المبكرة للنقابات العمالية، التي قادها مجموعة من الشباب العدنيين الذين استيقظت مداركهم الواعية على أهمية الروابط التاريخية والانتماء الوطني الواسع وخرجت هذه التحية من معاطف الأسر العدنية المشهود لها بمقارعة الاستعمار البريطاني والحكم الإمامي المستبد، تلك الأسر التي شهد لها رواد الحركة القومية في الوطن العربي كسعد زغلول من مصر وعبدالعزيز الثعالبي من تونس وغيرهما، والتقوا برواد الحركة الوطنية حينها في عدن الذين كان على رأسهم أسرة محمد سعيد وعبدالمجيد الأصنج وبيت الحمزة وعلي لقمان، والكثير من أعيان الحركة الوطنية في عدن، وبقيت هذه الصلة قائمة تحفز في وجدان الشعوب العربية لإيقاظ الوعي الوطني وإعادة نسيج الهوية الوطنية للمجتمعات العربية إلى الوضع الذي يعزز من قدرتها على مواجهة السياسة الاستعمارية والخروج من واقع التشظي المزري في معظم هذه الأقطار العربية المستعمرة والمحتلة.
برز أولاً عبدالله عبدالمجيد الأصنج كزعيم نقابي وسياسي منافح من أجل إعادة الاعتبار للهوية اليمنية المستلبة في مدينة عدن، وكان إلى جانبه مجموعة من الزعماء الشجعان الذين أشهروا إرادة التحدي في وجه الاستعمار البريطاني بكل شجاعة واقتدار، وكان من أبرزهم محمد سعيد مسواط، ومحمد سالم علي عبده، وعبده خليل سليمان، ومحمد عبده نعمان، وحسين سالم باوزير، وعبدالله عبدالرزاق باذيب، وإدريس حنبلة، ومحمد سالم باسندوة، وغيرهم من الزعماء الأفذاذ، كان الزعيم عبدالله الأصنج قد دشن الصرخة المدوية من داخل مقر المؤتمر العمالي، التي تقول للمندوب السامي البريطاني وعملائه إن عدن هي جزء من اليمن ولا بد أن ترفع بريطانيا يدها عن ممارسة سياسة الإذلال والتغريب، التي تطال أبناء اليمن من الجنوب والشمال على حد سواء، وكان أبناء الوطن محرومين من كل الامتيازات التي تقدمها الإدارة الاستعمارية في مدينة عدن، على نطاق التعليم، والتوظيف، والصحة، والسكن، وغيرها من الامتيازات الممنوحة لأبناء الجاليات الأجنبية في هذه المدينة اليمنية المستعمرة.
ثم أتت نخبة جديدة من الشباب تحركت في إطار البحث عن أسس نضالية وثقافية جديدة تعزز الإرادة المتحفزة نحو بناء الشخصية الجديدة التي تختزن في تصوراتها الفكرية روابط الانتماء والهوية الوطنية، وتجسد في وعيها الإرادة الجمعية لأبناء الوطن الواسع، وتكون تعبيرا وتجسيدا لإرادة النضال التي تمكن من التغلب على قوى الاستعمار وواقع التخلف والتمزق الاجتماعي المريع.
كان فيصل عبداللطيف من أبرز هؤلاء الشباب، الذي بدأ ينشط على إعادة صياغة وعي الشباب المتعلمين من أبناء الريف الذين التحقوا بمدارس عدن ومعاهدها التعليمية المختلفة، رافقه في هذه المسيرة قحطان الشعبي، وعلي السلامي، طه مقبل، سالم زين، سيف الضالعي، وغيرهم من الشباب الأفذاذ، وتأسس عمل فيصل عبداللطيف على قاعدة التربية الفكرية لأولئك الشباب الذين يلتزمون بلائحة تنظيمية صارمة تستهدف تهيئة جيل جديد من شباب المستقبل يتحلى بثقافة واسعة واطلاع كامل بالتاريخ الوطني قديمه وحديثه، وبالفكر القومي الذي يساعد على خلق شروط التفاعل مع الحركات الثورية التحررية التي تتحرك في أكثر من منطقة عربية نحو الحرية والاستقلال، كانت التربية الفكرية للإنسان الجديد الذي يناضل من أجل الحرية والانتماء إلى الهوية الوطنية الواسعة تستهدف تأصيل الثقافة التاريخية التي تجسد روح الانتماء إلى هوية المواطنة اليمنية الكبيرة ومن ثم تأصيل إرادة المقاومة الرافضة لحالة التمزق والاغتراب والضغوط الاجتماعية التي كان يمارسها الاستعمار والقوى الرجعية السلاطينية والإمامية حتى تنتصر إرادة التفوق عند الإنسان اليمني من أجل التغيير في نظام القيم الإنسانية والأخلاقية والانطلاق في رحاب الحلم الكبير في التطور والوحدة الوطنية التي تحقق للإنسان نعمة الحياة الحرة والتقدم الاجتماعي الزاهر والمتجدد.
ومن واقع التجربة التي عشناها في إطار التربية الوطنية التي دشنها الزعماء الوطنيون، الذين استقامت أعمالهم على عوامل الوحدة وبناء النسيج الاجتماعي الواسع للهوية الوطنية.. كان سعي هؤلاء الوطنيين يذهب إلى التغيير الجذري في الإدراك المعرفي للإنسان اليمني وبناء شخصيته المعاصرة في وجدانه كإنسان، وفي قلبه وضميره حتى ساهم بفعالية أكبر في تحقيق الانتصار والتعبير عن الرغبة في المشاركة والاستعداد للتضحية من أجل الشعب والوطن، ومن ثم إعطاء الأولوية لتحقيق النجاح للمسئولية الاجتماعية وليس للأمجاد الشخصية أو لتعزيز العصبية والولاء الضيق في المجتمع.
بهذه الرؤية الجديدة التي اتبعها الزعيم فيصل عبداللطيف وزملاؤه من النخب السياسية استطاع أن يشق طريقه نحو التحرير والاستقلال وبناء الإنسان الفاعل والمؤثر في صنع الأمجاد وتعمير الوطن الواسع والكبير، وإحداث التغيير في حياة الإنسان نحو المعاصرة والمواكبة في البناء الاجتماعي والتطور الاقتصادي.
وقد تحقق كل ذلك بفعل الانبعاث الوطني الواسع الذي شمل كل أطياف المجتمع اليمني من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه، حيث تجمعت قدراته وإمكاناته الكفاحية في التصدي لقوى الاستعمار والعملاء من السلاطين والإماميين حين اقتحموا بوعيهم الناضج معاقل التخلف وأوكار الجهل لهذه القوى التي تسلطت على إرادة هذا الشعب لمئات السنين من دهر العبودية والاستبداد المقيت.
ومن المهم -ونحن نتذكر هذا الجهد في التحصيل الثقافي والمعرفي الذي بذله زعماء الحركة الوطنية في اليمن في التمهيد للنهضة الثورية التي شهدها اليمن بشطريه- أن نشير إلى دور التوعية في ترسيخ عوامل الارتباط بالهوية الوطنية كعنصر أساسي من عناصر الحشد الواسع لإرادة المجتمع في عملية المواجهة والمقاومة للوجود الاستعماري وإزالة واقع التخلف والتمزق الاجتماعي الذي أوهن روح المقاومة عند الشعب اليمني لسنين عدة وإبقائه حبيساً لواقع التخلف والتمزق دون حركة منظمة تُذكر قام بها هذا الشعب خلال عقود من السنين الماضية والتي كانت حالكة بالظلم والظلام.
وقد اقترنت مشاعر اليقظة الوطنية في اليمن منذ بدايتها بمشاعر القومية العربية ودولتها المركزية في مصر عبدالناصر، التي بدأت تعمل على إشاعة العدل الاجتماعي والتطور الاقتصادي مع ما يصاحب ذلك من نهضة علمية وثقافية أثرت بشكل أو بآخر على مجرى التطور السياسي والاجتماعي في بلادنا وقاد إلى تعزيز المد الوطني في تغيير النظام في الشمال وتجذير عوامل انطلاق الثورة ونجاحها على نطاق الجنوب حتى خروج الاستعمار وجلاء آخر جنوبي بريطاني من على أرض الوطن الطاهر.
*من واقع هذه التطورات في النضال الوطني وارتباطه بالهوية الجامعة والانتماء الوطني.. كيف يستفيد الشباب من هذه التجربة؟
-الحديث عن البدايات الأولى لزعماء الحركة الوطنية الذين خاضوا نضالهم ضد الاستعمار البريطاني والرجعية يبين لنا إلى أي مدى كان المجتمع اليمني ممزق الأوصال، وكان المواطن اليمني يعيش في إطار دويلات وسلطنات وإمارات وجزر اجتماعية معزولة عن بعضها البعض، حيث يفتقد هذا المواطن إلى هويته الوطنية الحقيقية ولا يستطيع الإفصاح عن هوية وطنية جامعة ترتبط بجذوره التاريخية والجغرافية، بل كان المفروض عليه التمسك بالهوية القبلية السلاطينية الكسيحة والقتال من أجل ترسيخها وتثبيتها في وجدانه ووعي أبنائه وأحفاده حتى يحتفظ بها الاستعمار كظاهرة من ظواهر الصراع الاجتماعي القبلي في نطاق سياسة الإنهاك للمجتمع وتغييبه عن جوهر الصراع في الحرية والاستقلال واستعادة الهوية الوطنية المسلوبة.
ومن إدراك هذه الحقيقة، كان علينا وعلى الأجيال الجديدة العودة إلى أعماق الماضي لنتحرى مقاصد الاستعمار والرجعية، وعُقد القوى الرجعية التي فقدت عروشها السلاطينية والإمامية التي كانت تربض في بطون الماضي وعهود القرون الوسطى.
على شباب الثورة وأبناء المستقبل في هذا الوطن أن يتحملوا مسئولياتهم في مواصلة الكفاح من أجل الحرية والتقدم الاجتماعي، والوحدة وذلك في ظل المحافظة على روابط الانتماء الوطني، وتقوية نسيج الهوية الوطنية، وتعزيز جذورها التاريخية، والحيلولة دون العودة إلى مرحلة التمزق في واقع ما قبل ثورتي (سبتمبر وأكتوبر) المجيدتين، وجعل التعمق في الوعي التاريخي والفهم الاستراتيجي لمعنى التطور الحضاري على مستوى الوطن الكبير أساساً في تحديد المسار نحو التقدم الاجتماعي والرقي الحضاري الواسع والمزدهر.
ورغم كل هذه التطورات الحاصلة على صعيد الواقع المتحرك داخل الوطن اليمني فقد أثبتت الأحداث والتطورات السياسية الراهنة أننا ما زلنا نبحث عن إشكالية الهوية وارتباطها بالثقافة الوطنية التي تمكن من رصد الواقع والتعبير عن معطياته تعبيرا صادقا وأمينا، فالنخب السياسية الجديدة التي فرضت زعامتها على هذا الواقع المضطرب والمختل في جانب الفهم الواضح للهوية الوطنية ومدى ارتباطها بمشروع الدولة الحديثة ما زالت تتدحرج في ميدان الاجتهاد الفكري المشتت، ولم تنجح في حل إشكالية تحديد الهوية الوطنية منذ الحرب المسعورة في عام 1994م، وبقيت تراوح عند البحث عن هوية ثقافتنا الوطنية التي قد تحدد مبرر ومساحة وجودها السياسي ومن ثم وضع التصور إلى أي عمق يمكن أن تمتد جذور هذه الثقافة ونطاقها الجغرافي والبشري في الوطن.
فبدون أن يتكئ نشاط النخب السياسية على مفهوم موحد لمعنى الثقافة الوطنية وتحديد نطاقها الجغرافي والبشري كاستجابة واقعية لصفات الهوية الموحدة للشعب اليمني من أقصى شماله إلى أطراف جنوبه البحرية -بدون ذلك- فإن التطور السياسي في البلد سوف يبتعد كثيرا عن الواقع وربما ينجذب أكثر إلى الماضي المحمل بأثقال التمزق والتفتت العشائري والقبلي، وضروب التخلف والاستبداد السلاطيني والإمامي الغابر.
*عشية الاستقلال في الثلاثين من نوفمبر عام 1967م ذهبت التوقعات إلى أن يتم بين أطراف الحركة الوطنية في الشطرين إعلان قيام الوحدة اليمنية، وخابت هذه التوقعات عند إعلان قيام جمهورية اليمن الجنوبية.. ما الظروف التي حتمت على قيادة الجبهة القومية بعدم التحرك نحو الوحدة اليمنية؟
-الذين عايشوا تلك الظروف والتطورات أدركوا مدى الصعوبة حينها في التحرك نحو إنجاز هدف الوحدة بين الشطرين.. ومن تلك الصعوبات أن منطقة الجنوب اليمني كانت خارجة للتو من واقع التجزئة التي ظلت قائمة جراء تقسيم الجنوب إلى أكثر من 21 دويلة وسلطنة، وإمارة، كل واحدة منها كانت لها سلطتها المستقلة تدار بعشائرها وقبائلها بإدارة القرون الوسطى تطحنها النزاعات والصراعات الثأرية، التي كان الاستعمار يعمل على تأجيجها وتعميق جراحاتها بين أبناء العشائر والقبائل، ولم تشهد المنطقة الاستقرار إلا بعد أن قامت دولة النظام والقانون عشية انتزاع الاستقلال في الثلاثين من نوفمبر عام 1967م.
كان على النظام الجديد الذي أقامته الجبهة القومية أن يعمل أولا على ترسيخ وتثبيت قواعد الاستقرار وإزالة الفوارق في التفكير والعادات الاجتماعية بين أبناء سلطنة وأخرى، وإنهاء الحواجز النفسية التي تحتاج إلى المزيد من الجهود والتغلب عليها مع مرور الزمن من خلال بناء المدارس، وتعميم مراكز الأمن وإدخال نظام الجهاز الإداري الجديد إلى جميع مناطق المحافظات، واللجوء إلى تعبيد الطرقات التي تعمم الحركة بين المناطق التي كانت متباعدة في جانب التداخل والتواصل الاجتماعي والسلوك الحياتي الذي لم يكن قائما على التعايش والاحتكاك وروابط الإخاء إلى جانب الانتماء الإنساني والأخوي الذي يقوم على رباط الهوية والثقافة الوطنية الجديدة، كما أن اليمن كانت حينها شمالا تعيش حالة من الحصار والحروب الداخلية التي تستهدف تقويض النظام في صنعاء بعد خروج القوات المصرية من اليمن ومن ثم تكالب الأعداء من الداخل والخارج لإنهاء الثورة والقضاء على نظامها الجمهوري الوحيد.. في وقت كانت المملكة السعودية تحشد عملاء الاستعمار والسلاطين الذين هربوا إلى أراضيها، تحشد هؤلاء الفلول وتدعمهم بجيش من المرتزقة الأجانب على حدود جمهورية اليمن الجنوبية لزرع الصعاب للنظام الجديد وعرقلة جهوده في تقديم أي دعم أو مساندة للنظام الجمهوري في الشمال ضد فلول الإمامة وأعداء الثورة السبتمبرية المجيدة.
ولا بدمن الإشارة هنا إلى أن اللجنة التنفيذية للجبهة القومية كانت اجتمعت قبل قيام انقلاب 5 نوفمبر الذي حدث في الشمال، وقررت حينها التواصل مع نظام الرئيس عبدالله السلال للتشاور والحوار لقيام مجلس وطني موحد كخطوة على طريق قيام الدولة اليمنية الواجدة إلا أن العملية الانقلابية التي تمت في الخامس من نوفمبر عام 1967م قد أربكت هذا التحرك من قبل الجبهة القومية، وأدى ذلك إلى إعادة النظر في الترتيبات الجارية على مستوى العملية السياسية في الجنوب والتي كانت قائمة حينئذ على إنجاح الحوار بين أطراف الحركة الوطنية في الجنوب بدعم من مصر عبدالناصر وتعزيز الاصطفاف الوطني داخل الشمال من أجل دعم نظام السلال لتحقيق الانتصار على فلول الإمامة والقوى الملكية السعودية وكل المخططات الرامية إلى إجهاض الثورة اليمنية شمالها مع جنوبها، وهكذا سارت الأحداث والتطورات بعد ذلك إلى وضع صار فيه النظام في الشمال يتجه أكثر إلى المصالحة مع الملكيين والسعودية والابتعاد عن التقارب أو التفاهم مع النظام في الجنوب من أجل الاستقرار وقيام الدولة اليمنية الواحدة.
*ونحن نحتفل بالعيد الـ45 للاستقلال وعلى مقربة من انعقاد مؤتمر الحوار الوطني.. كيف يمكن تلافي السلبيات والاستفادة من تجربة الماضي؟
-من خلال تجربتي في العمل السياسي، ومن خلال دخولي المبكر مجال المعايشة للعديد من القيادات والزعامات السياسية على مستوى الشمال والجنوب أستطيع أن أجزم ببعض الانطباعات التي ترسخت في ذهني، وهي ظاهرة الأنا، والتعصب للفكرة التي يختزنها هذا الزعيم أو ذاك.. فمعظم الزعماء السياسيين يميلون إلى احتكار الحقيقة، بل وبعضهم يتعصب للفكرة التي يحملها في رأسه، وإن كانت هذه الفكرة على قدر كبير من القصور أو عدم صلاحيتها أو اكتمال نضجها، وربما لجوء البعض إلى إنكار دور الآخرين ومزاياهم في النضج السياسي والمعرفي هو من باب الشعور بالعجز ومن ثم اللجوء إلى ظاهرة الاعتداد بالنفس، وتأكيد الذات من حيث إن الحاكم هو فرد يستحق الزعامة وإعلاء رأيه دون الاعتراف بفضائل الآخرين أو دورهم في الحياة العامة.
وهكذا سارت الأوضاع في بلادنا، وتحدد أسلوب الحكام في إدارة شئون الشعب والبلد، وانخرط الجميع في معمعة المعركة القلقة التي تحتم إغلاق العقول وعدم استخدامها بطريقة نقدية ومبدعة، بل وترتب عن هذا الانخراط الدخول إلى دائرة الخضوع والطاعة وإلى صنوف الاندماج مع ما يفكر فيه الحاكم ويتعصب له في وسائل الإدارة والحكم وتأكيد السعي إلى إقصاء الآراء المعارضة مهما كانت رجاحتها وصواب مقاصدها.
الحقائق والتجارب الناضجة في العالم أكدت صحة الأفكار التي تطرح في ميدان الحياة السياسية والاجتماعية والتي تندرج في إطار الاختلاف في الرأي، وهي بالتأكيد من شروط الحياة الديمقراطية التي ينبغي أن يسود فيها روح الحوار بين الأطراف السياسية المتعددة واحترام إرادة وحرية الآخرين.
ومن واقع الإدارك لهذه الحقائق لا بد من التفكير بجدية من قبل النخب السياسية الجديدة وشباب المستقبل بأهمية الاستفادة من تجارب الماضي بسلبياتها وإيجابياتها، والعمل على إزالة العقبات التي ما زالت تمارس تأثيرها الضار في عقل الإنسان السياسي دون كابح أو ضابط يحمي الأجيال الجديدة من عواقب تأثيرها الثقافي والسياسي، وكذا مخاطرها التضليلية في ميادين الحياة السياسية والاجتماعية المختلفة.





جميع الحقوق محفوظه لدى صحيفة الوسط 2016 

التصيميم والدعم الفني(773779585) AjaxDesign